د. خالد سعد النجار
بسم الله الرحمن الرحيم
يطل علينا شهر رمضان بظلاله الإيمانية الوارفة ويسعد القلوب بالتقى، والألسن بالذكر، وسائر الجوارح بالخشوع والورع عما حرّم الله تجديدا للعهد مع الله عز وجل بالإنابة والتوبة والاستعداد والتهيؤ التام لهما. فهو شهر جوع وعطش ولكنه في نفس الوقت بلسم وشفاء للنفوس المأسورة بحب الدنيا، وللأجساد المنهكة من اللهث وراء ملذاتها، فهو يخفف عن الأرواح التعبة بأيامه التي هي أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات.
الصوم والصحة النفسية
إن أعصاب الإنسان قوية قادرة على احتمال العمل فالمخ يستطيع أن يعمل بلا انقطاع دون أن يرهقه العمل والعضلة البشرية يمكن لها العمل عشرات الساعات قبل أن ينالها التعب وهناك حقيقة مدهشة، أن العمل الذهني وحده لا يفضي إلى التعب، وقد حاول طائفة من العلماء أن يتعرفوا على مدى احتمال المخ الإنساني للعمل، فكانت دهشتهم كبيرة حين وجدوا أن الدماء المندفعة من المخ وإليه، وهو في أوج نشاطه، خالية من كل أثر للتعب في الأفراد الذين يمارسون عملا ذهنيا، في حين أنهم أخذوا عينة من دماء عامل يعمل بيديه بينما هو يزاول عمله فوجدوها حافلة بخمائر التعب وإفرازاته.
ويذهب الطبيب النفسي الأمريكي (أ·أ· بريل) إلى حقيقة مدهشة أخرى فيقول أن 100% من التعب الذي يحسه العمال الذين يتطلب عملهم الجلوس المتواصل راجعة إلى عوامل نفسية أي (عاطفية).
ويقول الدكتور (هادفيلد) العالم النفسي الإنجليزي في كتابة «سيكولوجية القوة» إن الجانب الأكبر من التعب الذي نحسه ناشئ عن أصل ذهني بل الحقيقة أن التعب الناشئ عن أصل جسماني غاية في الندرة.
إنه التبرم والضيق والقلق والإحساس بعدم الاستقرار، تلك هي العوامل العاطفية التي تشعر الموظفين والعمال الجالسين بالتعب، وترسلهم آخر النهار إلى بيوتهم وهم يمسكون أدمغتهم من (الصداع العصبي )
والصوم أفضل وسيلة لتخفيف القلق والتوتر والثورة النفسية لأمرين:
أولا: أنه يرفع المستوى الفكري للإنسان فوق مجال المادة والحياة.
ثانيا: أنه يخفض ضغط الدم ويخفف اندفاع الإنسان نحو القلق والتوتر.
كما أن الصوم هو رياضة الهدوء والاسترخاء، والثورة النفسية لا دواء لها سوى الرضى والاستسلام لمشيئة الله والتسامح مع الناس، وأغلب الأفراد الذين يصبحون فريسة هذا المرض الخطر، هم إما من العابسين المتشائمين ذوي الطباع الحادة، وإما الذين لا هم لهم طول النهار سوى أن يشعروا بالهم واللهفة والأسى على أمر لم يكن، وللذين يعانون المتاعب والهموم لأنهم ورطوا أنفسهم في أزمة مالية أو اجتماعية أو عائلية، فإن الصوم يحقق الاسترخاء والشفاء من هذا التوتر المهلك.
فالصوم يعلم الصبر، والسماحة، والكلام الطيب، والرضى وانشراح الصدر،والصوم يعلم تقبل المصائب بصبر جميل، والصوم يعلم التسامح مع الناس والتعامل مع المتاعب بالرفق والأزمات بالبساطة والسهولة.
الصوم والتخلص من سموم الجسم
يتعرض الجسم البشري لكثير من المواد الضارة، والسموم التي قد تتراكم في أنسجته، وأغلب هذه المواد تأتي للجسم عبر الغذاء الذي يتناوله بكثرة، وجميع الأطعمة تقريبًا في هذه الأيام تحتوي على كميات قليلة من المواد السامة، وهذه المواد تضاف للطعام أثناء إعداده، أو حفظه كالنكهات، والألوان، ومضادات الأكسدة، والمواد الحافظة، أو الإضافات الكيميائية للنبات أو الحيوان، كمنشطات النمو، والمضادات الحيوية، والمخصبات، أو مشتقاتها، وتحتوي بعض النباتات في تركيبها على بعض المواد الضارة، كما أن عددًا كبيرًا من الأطعمة يحتوي على نسبة من الكائنات الدقيقة، التي تفرز سمومها فيها وتعرضها للتلوث، هذا بالإضافة إلى السموم التي نستنشقها مع الهواء، من عوادم السيارات، وغازات المصانع، وسموم الأدوية التي يتناولها الناس بغير ضابط... إلى غير ذلك من سموم الكائنات الدقيقة، التي تقطن في أجسامنا بأعداد تفوق الوصف والحصر، وأخيرًا مخلفات الاحتراق الداخلي للخلايا، والتي تسبح في الدم كغاز ثاني أكسيد الكربون، واليوريا، والكرياتينين، والأمونيا، والكبريتات، وحمض اليوريك... الخ، ومخلفات الغذاء المهضوم والغازات السامة التي تنتج من تخمره وتعفنه، مثل الأندول والسكاتول والفينول.
كل هذه السموم جعل الله -سبحانه وتعالى- للجسم منها فرجًا ومخرجًا؛ فيقوم الكبد -وهو الجهاز الرئيسي في تنظيم الجسم من السموم- بإبطال مفعول كثير من هذه المواد السامة، بل قد يحولها إلى مواد نافعة، مثل: اليوريا، والكرياتين، وأملاح الأمونيا، غير أن للكبد جهدًا وطاقة محدودين، وقد يعتري خلاياه بعض الخلل لأسباب مرضية، أو لأسباب طبيعية كتقدم السن فيترسب جزء من هذه المواد السامة في أنسجة الجسم، وخصوصًا في المخازن الدهنية.
ومن المعروف أن الكبد يقوم بتحويل مجموعة واسعة من الجزئيات السمية -والتي غالبًا ما تقبل الذوبان في الشحوم- إلى جزيئات تذوب في الماء غير سامة، يمكن أن يفرزها الكبد عن طريق الجهاز الهضمي، أو تخرج عن طريق الكلى.
وفي الصيام تتحول كميات هائلة من الشحوم المختزنة في الجسم إلى الكبد حتى تؤكسَد، ويُنتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها ويتخلص منها مع نفايات الجسد.
كما أن هذه الدهون المتجمعة أثناء الصيام في الكبد، والقادمة من مخازنها المختلفة، يساعد ما فيها من الكوليسترول على زيادة إنتاج مركبات الصفراء في الكبد، والتي بدورها تقوم بإذابة مثل هذه المواد السامة، والتخلص منها مع البراز. ويؤدي الصيام خدمة جليلة للخلايا الكبدية بأكسدته للأحماض الدهنية فتتخلص هذه الخلايا من مخزونها من الدهون، وبالتالي تنشط هذه الخلايا وتقوم بدورها خير قيام، فتعادل كثيرًا من المواد السامة، بإضافة حمض الكبريت أو حمض الجلوكونيك، حتى تصبح غير فعالة ويتخلص منها الجسم كما يقوم الكبد بالتهام أية مواد دقيقة، كدقائق الكربون التي تصل إلى الدم بواسطة خلايا خاصة تسمى خلايا "كوبفر"، والتي تبطن الجيوب الكبدية ويتم إفرازها مع الصفراء، وفي أثناء الصيام يكون نشاط هذه الخلايا في أعلى معدل كفاءتها للقيام بوظائفها؛ فتقوم بالتهام البكتريا، بعد أن تهاجمها الأجسام المضادة المتراصة.
وبما أن عمليات الهدم catabolism في الكبد أثناء الصيام تغلب عمليات البناء في التمثيل الغذائي، فإن فرصة طرح السموم المتراكمة في خلايا الجسم تزداد خلال هذه الفترة، ويزداد أيضًا نشاط الخلايا الكبدية في إزالة سمية كثير من المواد السامة، وهكذا يُعتبر الصيام شهادة صحية لأجهزة الجسم بالسلامة.
يقول الدكتور "ماك فادون" -وهو من الأطباء العالميين، الذين اهتموا بدراسة الصوم وأثره-: "إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم، وإن لم يكن مريضًا؛ لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم، فتجعله كالمريض وتثقله؛ فيقل نشاطه.. فإذا صام الإنسان تخلص من أعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل".
المصادر
ـــ الصيام والتخلص من السموم، د.عبد الباسط محمد سيد
فقه الصوم وفضل رمضان، د. سيد العفاني
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
إرسال تعليق