الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين،
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما
ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه،
وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون
أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الموتُ حقيقةٌ تنقلنا إلى جنة الله عز وجل :
أيها الأخوة المؤمنون، موضوع هذا الدرس متعلق بالعقيدة، متعلق بمفهوم الزمن، ومتعلق بالموت، قال تعالى:
آية خطيرة، فوجودك في الأرض مقرونٌ بالابتلاء
والامتحان، فإن الله خلَق الموت، وخلق الحياة، الموت مخلوق، يخلق الموت
خلقاً، هذه الخلايا يأتيها الغذاء فتنمو، ويأتيها الغذاء فتعيش وتستمر،
ولكن هناك عوامل تسبب موت الخلايا، هذا الموت يتعاظم إلى أن يسبب موت
الإنسان. كما أنك مخلوق لتحيا فمع خلْقِ الحياةِ خلْقُ الموت، قال تعالى:
أيها الأخوة الكرام، أنا أتصور أن الذي يُدخل
مفهوم الموت مِن بابِ التشاؤم مخطِئٌ، بل الموتُ حقيقةٌ تنقلك إلى جنة الله
عز وجل، تنقلك إلى الأبد، إلى السعادة العظمى المطلقة، أن تُدخل مفهوم
الموت في حسابك، أو أن تدخل مفهوم الزمن فهذا صحيح، والناس الغافلون يعيشون
غفلتهم ثم يموتون، لكن لو عرف كل إنسان أنه يعيش أيام محدودة معدودة تمضي
سريعاً، ثم سيواجه حساباً دقيقاً، وسيواجه حياةً أبديةً؛ فإما لجنة يدوم
نعيمها، وإما إلى نار لا ينفذ عذابها، لاختلفت حالهم اختلافاً كلياً،
المشكلة الغفلة، الإنسان يعيش مع الناس، يعيش بحكم حياته المستمرة، لكن لو
وقف، وقال: مَن أنا، ما علاقتي بالزمن؟ أنا بضعة أيام، لماذا خُلِقْتُ؟
فعليه حينئذٍ أنْ يعرف لأنّه خُلِق للابتلاء، وما هو أخطر حدث في حياتي؟
إنه الموت.
أخطر حدث نهاية الدنيا، وكل المكتسبات تلغى عندئذٍ في ثانية، كان رجلاً فصار خبراً على الجدران.
كل شيء خلقه الله عز وجل له بداية وله نهاية :
فيا أيها الأخوة، أول نقطة في هذا الدرس أن كل شيء خلقه الله عز وجل له بداية وله نهاية، قال تعالى:
أول حقيقة أنّك كإنسان، وكذلك الحيوان، وكذلك
النبات، كل شيء خلقه الله عز وجل له بداية وله نهاية، لكن الله قديم أزلي،
هو الباقي الحي على الدوام، ليس له بداية، وليس له نهاية.
الشيء الثاني أنْ تعلم في هذه الحياة المحدودة
التي لها بداية ونهاية أنّ البداية لها مئة طريق مفتوحةٍ أمامك، لكن
النهاية لا يبقى أمامك إلا طريقان، طريق الجنة وطريق النار.
والذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار؛ إما
الجنة أو النار، لذلك قدم الله الموت على الحياة تقديم أهمية، فالإنسان
حينما يولد يكون أمامه مليون خيار، ينحرف فيتوب، فهذا خيار التوبة، ينحرف
فيسترجع، يستغفر، يستقيم، فالبداية تفتح أمامك ألف طريق، أما حين يأتيه
مَلَك الموت فليس أمامك إلا طريقان، طريق الجنة أو طريق النار.
الناس يوم القيامة جميعاً إما مؤمن وإما كافر :
الناس في الدنيا يصنفون بمئات الأصناف، إلا يوم القيامة فإنهم جميعاً إما مؤمن وإما كافر، قال تعالى:
كلام متعلق بالعقيدة، هذا الدرس مأخوذ من
دروس العقيدة، أول مفهوم: أنّ كل شيء خلقه الله له نهاية، والدنيا أمامكم،
والناس أمامكم، كل واحد من أخواننا الكرام له أقرباء قد ماتوا؟ كان أحدُهم
ملءَ السمع والبصر فأصبح خبراً، ونحن على هذا الطريق، وسيأتي يوم لا يبقى
فيه أحد في هذا المسجد، بل فوق الأرض، كلهم تحت الأرض، وكل إنسان رهين
عمله، قال تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾
[ سورة المدثر: 38]
وهناك شيء آخر، أن هذه الحياة الدنيا فيها أشياء
تنفعل لك، لا تحتاج إلى سعي، ولا إلى بحث، ولا إلى كسب، ولا إلى طلب،
فالشمس يستوي الناس جميعاً في عطائها، والهواء ليس فيه فاتورة، فقد تُطالَب
بفاتورة الهاتف، وفاتورة الكهرباء، وفاتورة الماء، لكنْ والحمد لله فاتورة
الهواء لا وجود لها، فاتورة شمس مشرقة لن تصلك، ولن تُطالَب بشيء منها.
مرة كنت في مكان جميل مرتفع، والدنيا حر في
الأماكن الأخرى، لكن حولنا نسمات عليلة، قلت: واللهِ لو خطر في بالهم
لوضعوا على هذه النسمات العليلة ضريبة، هذه الأشياء تنفعل لك، لكن هناك في
الأرض أشياء لا تأخذها إلا بالأسباب، فكوننا كونُ الأسباب لن تستطيع أن
تستخرج الماء إلا إذا حفرت البئر، فالماء الذي في باطن الأرض ينفعل بك، أما
الهواء فلَكَ، الشمس لك، لكنّ الماء والأرض إن لم تحفر لم تأخذه، ولن يصل
إليك.
النبات مسخر لك لكن بك، لا بد من أن تزرع، العلم
ينفعك إذا طلبته إن لم تطلب العلم لا تنتفع بالعلم، يمكن أن نسمي هذا
الكون كون الأسباب، قال تعالى:
إذا انتقلنا إلى الدار الآخرة فنحن عندئذٍ في كون الإكرام :
حتى إنّ الإنسان يملك بيتاً صغيراً في أطراف
المدينة، ودخله محدود، يقول لك: متُّ ألف موتة حتى اشترينا بيتاً مِن ستة
وخمسين متراً بتسعمئة ألف ليرة، ويحتاج إلى مئة ألف أخرى، فعليك جهد، وعمل
يومي، ومشقة، من أجل أن تشتري بيتاً صغيراً، فنحن في كون الأسباب، أما إذا
انتقلنا إلى الدار الآخرة فنحن عندئذٍ في كون الإكرام، قال تعالى:
الأسباب معروفة، والثمن ليس له حساب، الطلب محقَّق، فأيُّ شيء تطلبه سهلٌ ومتوفّر، أي شيء يخطر في بالك تجده أمامك، قال تعالى:
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾
[ سورة الحاقة: 23]
الفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة، أكلها دائماً
وظلها، بين كون الأسباب وكون الإكرام مسافة كبيرة جداً، ففي الدنيا مِن أجل
أنْ تضع إلى جانب اسمك دالاً ونقطة تحتاج إلى ثلاث وثلاثين سنة دراسة،
تقوم بهذه الدراسة بالجهد والمشقة، ثم تحتاج إلى اختصاص لا قيمة لها إلا
باختصاص، عشر سنوات اختصاص بالخامسة والأربعين ماذا بقي؟ هكذا الحياة، نحن
في كون الأسباب، نحن في كون الكدح، في كون الجهد والامتحان والابتلاء، قال
تعالى:
لكنّا خلقنا للجنة، لجنة الإكرام، نحن الآن في
دار تكليف لكنا سندخل في الجنة إن شاء الله، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن
يكرمنا بدخولها، نحن مخلوقون لدار التشريف، نحن في دار العمل الآن،
ومخلوقون لدار الجزاء في خاتمة المطاف.
أغبى الناس هو الذي زهد بالدار الآخرة وطمع بالدنيا :
والله يا أيها الأخوة، أحمق الناس، وأغبى
الناس هو الذي زهد بالدار الآخرة وطمع بالدنيا، والدنيا والله مقامرة
ومغامرة، لأنها لا تستقيم على حال، ويمكن أنْ تغادرها وأنت في أوجك، أكثر
الناس يتعلم دروساً حتى تتنامى خبراته، وصارت علاقاته بالناس واضحة جداً،
وقلما يستطيع أحد أن يخدعه، ذكاء، خبرات، ضبط كل شيء دقيق، حينما تكتمل
خبراته يضعف جسمه، مفارقة عجيبة، الشاب أحياناً يأكل الحلفا كما يقولون،
عندما تتنامى أذواقه في الطعام لا يتحمل جسمه آثارَ الطعام، فلا يستطيع أن
يأكل هذا الطعام، وقد يعيش في الحرمان، وإذا أفرط تعاقبت عليه المشاكل
والويلات والآلام. حياتنا حياة كدح، حياة امتحان، حياة ابتلاء،
والإنسان إذا وطَّن نفسه أن يكون في هذه الحياة جندياً لله عز وجل فإنه
تنتظره سعادة أبدية كبيرة. شيء آخر، مفهوم الزمن أمرٌ دقيق، قضية غامضة
جداً أحاول توضيحها، مرة ذكرت أنّ أيّ شيء له طول، نقطة هندسية حركتها رسمت
خطاً، الخط حركناه فرَسَم سطحاً، السطح حركناه فشكّل حجماً، الحجم حركناه
فشكّل زمناً، فمفهوم الزمن غامض قالوا عنه: إنه البعد الرابع للأشياء.
الزمن ما يطرأ على الشيء بفعل حركته بالضبط، أهل الكهف لبثوا في كهفهم
ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعاً، الزمن يجب أن يطيل أظافرك، وأن يطيل شعرك،
وأن يبيض الشعر، وأن يتجعد جلد الوجه، وأن تنحني القامة، استيقظوا كما
ناموا ثلاثمئة أعوام وتسعة، كما ناموا استيقظوا، فأين الزمن؟ الله عز وجل
أبطل فعل الزمن مع أهل الكهف. وقد قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: ((الليل
والنهار يعملان فيك))، وأوضح سبب خذ صورةً لك قبل عشرين عاماً، أو قبل
ثلاثين عاماً، ووازن بينها، وبين الصورة الحديثة، كان شعرك أسودَ كثيفاً،
اختلف لونه، اختلفت ملامح الوجه، كل ما فيكَ اختلف، هذا من فعْل الزمن،
كائن متحرك مع الحركة تصيبه تغييرات وتعتريه أطوارٌ.
الموت أحد مخلوقات الله عز وجل ولأنه أحد مخلوقاته يمكن أن يعطله :
لكن الله عز وجل هو خالق الزمن، والموت أحد
مخلوقاته، ولأنه أحد مخلوقاته يمكن أن يعطله، كما عطَّله مع أهل الكهف،
وعطله أيضاً مع هذا الذي قال عنه الله:
أماته مئة عام، ثم بعثه، ربنا عز وجل وضَعنا
أمام أمْرين، عطَّل فعْلَ الزمن في الطعام والشراب، فبقي طازجاً طيب الطعم
مئة عام، وسلّط الزمن على الحمار، فكان عظاماً نخرة، هناك بُعْد رابع
للأشياء.
وكتقريب للمعنى تجد سيارة جديدة خرجت من معملها،
وصاحبها يعتني بها عناية كبيرة جداً، فانظر إليها بعد خمسة أعوام تجد
فرقاً واضحاً، فرق الاستعمال، هذا من أثر الزمن، شيء متحرك تقع عليه
تغييرات الزمن.
أيها الأخوة، الإنسان أصبح زمناً، وهو بضعة أيام
كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، واللهِ إن هذا المفهوم وحده لو أدركنا
حقيقته لما نِمْنَا الليل، إنسان عاش ستين سنة، ولسبب أو لآخر ربما لا
نستطيع أن نعد كل حركاته وسكناته، ذاق ستين صيفاً وستين شتاءً وستين خريفاً
وستين ربيعاً، أنجب خمسة أولاد، واعٍ، صاحٍ، وعاش خمس مناسبات، زوجته على
وشك الولادة، ألا نستطيع أن نعدّ له كم سفرة؟ نستطيع، كم دعوة لباها؟
معدودة، كم مرة بكى، كم مرة ضحك؟ الإنسان بضعة أيام.
مفهوم الزمن مفهوم خطير جداً :
مرة قابلت إنساناً في بلد إسلامي وهو رجلٌ
عالمٌ، والتقطوا لنا صوراً في هذه الجلسة رأيتها قبل أيام، الرجل توفي رحمه
الله، وأنا أنظر إليه يتحرك، ويتكلم، ويشرح هذه الآية، ويشرح هذا الحديث،
ويأتي بأدلة كثيرة، لكني أنظر إليه الآن فهو تحت أطباق الثرى مضى إلى ربه. مفهوم الزمن أنّ الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى
يوم انقضى بضع منك، هناك علماء في الفيزياء، والموضوع درسوه من وجهة نظر
فيزيائية، هكذا قالوا: في الكون سرعة ثابتة، هي سرعة الضوء، تقريباً
ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، بالدقة مئتان وتسعة وتسعون وثمانمئة
واثنا عشر ألف كيلو متر في الثانية، أي جسم سار بسرعة الضوء يصبح ضوءاً،
يمكن لطفل صغير مثلاً لو أتيح له أنْ يطير بسرعة الضوء فهذا الطفل يصبح
ضوءاً، وتصبح كتلته صفراً، وحجمه لا نهائياً، هذا مبدأ أينشتاين، ويعد أعلم
علماء الفيزياء، وجاء بنظرية النسبية، وهي أخطر النظريات. فالشيء إذا سار مع الضوء أصبح ضوءاً، وتوقف
الزمن بالنسبة له، هذا المسجد ونحن أجسام، ونتلقى منبعاً ضوئيّاً مِن
المصابيح، هذا الضوء يأتي إلينا، وينعكس منا موجات ضوئية، لو تصورنا أن هذه
الموجات صاعدة في الفضاء الخارجي، ولو أن واحداً منا استطاع أن يطير مع
هذه الموجات لرأى هذا المسجد، وهؤلاء الأخوة الكرام إلى أبد الآبدين، وقد
انعدم الزمن، يكون الدرس انتهى بعد ساعة، والعشاء صليناها، وجئنا بعد
أسبوع، وأسبوع آخر، ثم جاء الأجل، وأصبحنا كلنا تحت أطباق الثرى، وترحم
الله علينا، وصاحبُنا الذي يطير مع هذه الموجات يرانا كما نحن. لو أنه سبق الضوء رجع الزمن، نظرياً ممكن أن
نشاهد موقعة بدر كما هي، لو سرنا في الفضاء الخارجي بأسرع من الضوء حتى
حصلنا على موجات هذه المعركة لشاهدناها كما هي، ولو سبقنا الضوء تراجع
الزمن، لو قصرنا عن الضوء تراخى الزمن، ساعة في الفضاء الخارجي يقابلها في
الأرض ألف عام. قضية الزمن قضية خطيرة جداً، والزمن يمضي بسرعة،
وكل واحد من أخوانا الكرام له عمر، فاسأله كيف مضى هذا العمر؟ يقول لك:
كلمح البصر، والإنسان عندما ينام يقف الزمن، يستيقظ قبل المغرب، فيظن نفسه
أنه استيقظ بعد الفجر، هذه تحدث كثيراً، نام نوماً عميقاً عند العصر،
فاستيقظ قبل المغرب، فقال: هل أدرِك صلاة الصبح، أيُّ صبحٍ هذا؟ المغرب لم
يؤذَّن له بعد، عندما نام تعطل الزمن، لذلك عندما سئل أهل الكهف: كم لبثتم؟
حَسبَ القوانين المألوفة لبِثْنا يوماً أو بعض يوم، ومضى على نومهم
ثلاثمئة سنين وازدادوا تسعاً.
ما مضى فات والمؤمَّل غيب ولنا الساعة التي نحن فيها :
ربنا عز وجل يوقف الزمن، فهذا الذي مات توقف
الزمن أيضاً بالنسبة له، الذي بعثه الله بعد موته ضُرِب ببعض البقرة، فسئل:
مَن قتله؟ إنها قصة البقرة التي وقعت في عهد بني إسرائيل مع سيدنا موسى،
عندما قتل ابن عمه، وقال الله سبحانه:
فيمكن أن يتوقف الزمن وأنت في الزمن، ويمكن أن يتوقف الزمن بعد مضي الزمن، أو ممكن أن تدخل على الزمن بعد انقضاء الزمن.
أيها الأخوة، الذي نريده أن يعلم الإنسان علم
اليقين: ما مضى فات، والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها، لا أحد من
أخواننا الحاضرين وأنا معكم يملك ساعة بعد هذه الساعة.
مرة دعيت إلى مولد في جامع الحنابلة، بعد انتهاء
درس الأحد فيما أذكر توجهت إلى ذلك المسجد، أحد أعضاء الجمعية التي سعت
لإنشاء هذا الحفل استقبلني عند مدخل المسجد بترحاب شديد، ودخلت إلى المسجد،
وجلست في مكاني أستمع لبعض الكلمات، ولم ألبث أنْ سمعتُ اضطراباً وضجيجاً
في المسجد فما فهمت شيئاً، ثم أُعلِمت أن هذا الذي استقبلني وقع ميتاً،
ذهبنا إلى مستشفى أمية لنسعف الرجل، لكنه مضى إلى مولاه، وكان قد صافحني
قبل دقيقتين، كذلك كنتُ مرة في تعزية فجلس إلى جانبي أحد علماء دمشق
الأفاضل، رحمه الله، حدثته وحدثني، وقام وانصرف، خرج من بيت التعزية رجلٌ
عنده سيارة لا يعرفه إطلاقاً، ولا يعرف اسمه، فدعاه ليوصله إلى البيت،
فاستجاب له شاكراً، أوصله إلى البيت، وبيته في الطابق الرابع، وصعد الطوابق
الأربعة، وفتح الباب، ودخل إلى بيته، ثم دخل إلى غرفته، وضع عمامته على
الطاولة، وخلع جبته، واستلقى على السرير، وسلم روحه، لو أراد أن يستأجر
سيارة لتوصله لمات في السيارة، أما هذا الأخ الذي ألهمه الله أن يأخذه من
باب بيت التعزية إلى باب بيته بأسرع ما يمكن، وأجله بعد خروجه من التعزية
بعشر دقائق، كانت هذه كافية لكي ينتقل إلى بيته.
الموت يأتي فجأةً والقبر صندوق العمل :
مَن منا يملك ساعة في المستقبل، وذات مرة
جلست مع مدير ثانوية، وبث لي همومه، وقال: أنا مُجمِع على السفر إلى
الجزائر كي أعلِّم هناك، وكان هناك في وزارة التربية نظام الإعارة، مدرس له
أن يذهب إلى أيِّ بلد عربي، ويأخذ ضعف راتبه، فقال لي: سأذهب إلى هناك،
وأقيم خمس سنوات، ولن أتي إلى الشام في هذه السنوات الخمس، وسوف أقوم
بزيارات في صيف هذه السنوات الخمس، وعدَّ لي البلاد الأوربية التي سيزورها،
بلداً بلداً، أول سنة إسبانيا، وفي الثانية بريطانيا، وفي الثالثة فرنسا،
وفي الرابعة إيطاليا، وسأتجوّل في هذه البلاد، وأذهب إلى المتاحف، وإلى
الريف، ثم أعود بعد خمس سنوات، وأطلب الإحالةَ على التقاعد، وأشتري محلاً
لبيع التحف، ويكون أولادي قد كبروا، ويقيمون في هذا المحل، وأجعله منتدى لي
ولأصدقائي، ولا أذكر التفاصيل الأخرى، جلست عنده ساعة، حدثني فيها عن
عشرين سنة قادمة، ثم فوجئت مساءً أنه مات في اليوم نفسه، والله في اليوم
نفسه وجدت نعيَه على الجدران وقد انصرفتُ إلى البيت بعد لقائي به، وعدت إلى
مركز المدينة لعمل، وفي طريق العودة إلى البيت رأيت نعيَه على الجدران في
اليوم نفسِه، وهذا يحدث كثيراً. الموت يأتي فجأةً، والقبر صندوق العمل، لحكمة
بالغة أيها الأخوة ليس للموت قاعدة، إنسان معلَّل ثلاثين سنة وهو مُقعَد في
البيت، ولا أحدَ من ذويه إلا ويتمنى موته، ولا يموت، وإنسان في ريعان
الشباب يباغته أجلُه، كلنا تحت هذا القانون، ولا يُستثنَى واحد، أليس
الأفضل أن تعدَّ لساعة المغادرة عدتها، ما مضى فات، الماضي لا تبحث فيه
إطلاقاً، فإنّ البحث فيه غباء، ما مضى فات، والمؤمل غيب لا تملكه، لا نملك
إلا هذه الساعة، فيجب أن تتوب في هذه الساعة، بل في هذه اللحظة، تريد أن
تطلب العلم فاطلب العلم الآن، تريد أن تنفق انفق الآن، لا تقل غداً، قال
النبي الكريم لرجل: ويحك أو ليس الدهر كله غداً. أخواننا الكرام، قضية الموت والزمن قضية كبيرة، كما قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: ((الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما)). أيها الأخوة لو يعلم الإنسان ماذا ينتظره بعد
الموت، فو اللهِ أكاد أقول لكم: لن ينام أبداً، هناك مَن يعمل في التجارة،
زرت معملاً كلموني فقال لي بعضُ مَن فيه: إنّ صاحبه اشترى بيتاً ثمنه مئة
وستون مليوناً، يعمل مِن الساعة الخامسة حتى الساعة الحادية عشر مساءً،
فهذا الجهد ينبغي أن يكون للآخرة، انظر إلى النبي اللهم صلي عليه، لقد جاء
إلى الدنيا، وخرج فماذا فعل؟ لقد أقسم الله سبحانه وتعالى بعمره، فقال
تعالى:
الطامة الكبرى أن يعيش الإنسان دون هدف كالدابة تماماً :
وكذلك اسأل نفسك: ماذا فعلت للمسلمين؟ ماذا
قدمت، أقدَّمتَ علماً، أقدّمتَ مالاً، أقدمتَ خبرةً، أقدَّمتَ مساعدة،
أربَّيتَ أولادك، ماذا فعلت؟ هذه هي الغنيمة، لقد ذهبت إلى بلاد الغرب، إلى
أمريكا، فكان أكثرُ شيء لفت نظري أن الإنسان هناك يعيش بلا هدف، يأكل،
ويشرب، قال تعالى:
يعيش الإنسان بلا هدف فهذه واللهِ الطامَّة
الكبرى، مرة التقيت مع مندوب شركة، أردت أن أحدثه عن الله قليلاً، فما إن
بدأت حتى قال: هذه المعلومات لا تعنيني، ولا أهتم لها، ولا ألقي لها بالاً
إطلاقاً، أنا يعنيني امرأة جميلة، وبيت واسع، وسيارة حديثة، إنه تائهٌ
ضائعٌ، قال تعالى:
يا أيها الأخوة، درسنا اليوم دارَ حول مفهوم
الزمن ومفهوم الموت، وكلاهما مفهومان خطيران، ملخص الملخص قول الإمام الحسن
البصري: ((الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه)).
العاقل من يُدخل ساعة الموت في حساباته اليومية :
والله ما رأيت في كل حياتي موقفاً فيه عبرة
كما أقف أمام قبر، ويدفن الميت أمامي، وأنا أعرفه تماماً، قد يكون صديقاً،
وقد يكون قريباً، أعرفه تماماً، أعرف حياته، وطريقة حياته، وصلاته، ودينه،
أراه ملفوفاً بقماش يُحمَل، ويُدفن تحت الأرض، والشيء المؤلم أنْ توضع
دقائق الحجرة على فتحة القبر، ويأتي الحفار، ويجرف التراب، وقد تسقط عليه
كمية كبيرة جداً من التراب، وكان قبل أيام على سرير معطَّر، وشرشف جديد
معطر ومغسول، حرام في الشتاء وثير، في الصيف مسبل لطيف، أما بعد الموت
فيهال عليه التراب، وانتهى الأمر، والذي أرجوه أن نُدخِل هذه الساعة في
حساباتنا اليومية، فاحذرْ أن تأكل قرشاً حراماً أو أن تكذب، واحذرْ أن
تعتدي ولا على نملة، لأن كله مسطَّر ومسجل عليك، قال تعالى:
هذا الكلام خطير، يجب أن تراجع كل حساباتك،
تراجع شؤون بيتك وظروف عملك، أي حرفة رائجة يقبل الناس عليها حلالاً كانت
أو حراماً، أي جهاز ممتع مسلٍّ ألهو به، يا ترى ما الذي يعطلني عن صلواتي،
ويفسد علاقتي مع أهلي، ويفسد تربية أولادي؟ واحذرْ أنْ تقول: أنا واحدٌ مِن
الناس.
العمل الصالح هو الفوز والذكاء والفلاح أما الراحة فهي استهلاك رخيصٌ للوقت :
أخواننا الكرام، عندما تُدخل الموت في
حساباتك اليومية تنعكس الموازين، سأوضح لكم هذا، إنسان تعب في العمل الصالح
يقال له: لماذا لا ترتاح؟ لو فرضنا أني ألغيت هذا الدرس، وتوقفتُ عن هذه
الخدمة، وطويت هذا الكتاب، وسأخلد للراحة في البيت، هل الراحة هي الهدف؟
لا، فإنّ الهدف هو العمل، مثل بسيط وطريف: إذا ملأ رجل الحمام ماءً ـ
البانيو ـ ماءً فاتراً، والماء الفاتر مهدئ جداً، وجلس ساعة، وساعتين،
وثلاثاً، وتمطَّى كل يوم عشر ساعات في الماء الفاتر، هل يصبح طبيباً، أو
يصبح تاجراً كبيراً، هذا مستحيل، الراحة ليس لها مردود، وليس لها مستقبل،
أما التعب فله مستقبل، إنسان يتعب يحقق نجاحاً، يقطف ثماره، لما دخل الموتُ
في حساباتي رأيتُ أن العمل الصالح هو الفوز، هو الذكاء، هو الربح، هو
الفلاح، والراحة استهلاك رخيصٌ للوقت. مرة شاهدت بيتاً جميلاً في مكان، فقلت لصديقي:
لو كانت هذه البيت لنا، وأقمنا فيها كلَّ أيامنا فسنأتي يوم القيامة
مفلسين، مكان جميل، وطعام شهيٌّ، ومناظر خلاّبة، تأكل، وتنام، وتسهر،
وتتأمل، يأتي عليك يوم القيامة وأنت مفلس، فالأولى أنْ نجلس في مكان حار،
وفيه كلُّ المنغِّصات، ولكن فيه عمل صالح، إذاً عندما تدخل الموت والآخرة
في الحسابات تجد التعب راحة، والبذل هو الفلاح، وليس الأخذ، أكثر الناس
يحسب نفسه ذكياً إذا أخذ، بالعكس فإنّ الإنسان المفلح هو الذي يعطي، أما
إذا أخذ تجده بعد حينٍ ترك هذا ومات، لم أر عبارة أدق لمَا أعلم مِن إنسانٍ
من أهل الدنيا، ومن كبار الأغنياء مات، فيقال: ترك كل شيء، بينما رجل له
أعمال صالحة، ومات أخذ كل شيء، جملة (كل شيء) في الحالتين موجودة، ولكن
أحدهما أخذ (كل شيء)، والآخر ترك (كل شيء)، عندما تدخل الموت والآخرة في
حساباتك فأنت بالتعبير العامي "تقبضها" وليس في ذلك كلام، تنعكس موازينك،
وترى الفلاح في القبض وليس في الأخذ، ترى الذكاء في التعب، والسهر، وبذل
الجهد، أعرف أشخاصاً يعملون عشرين ساعة لله، وهو أسعد الناس، يقال له:عليك
بالراحة قليلاً، فيقول: أنا بالراحة أتعب، فإنْ رأيتُ نفسي عاطلاً عن أيِّ
عملٍ، فارغاً، فعندئذٍ ليس للحياة مذاق، أمامك عمل، وإنفاق المال،
والتعليم، وطلب علم، وحلّ المشكلات، وتيسير أمرٍ لإنسان، بهذا ترقى عند
الله، اخلدْ إلى الراحة تشعر بتفاهة الحياة، لا تستحق أن تعش هذه الحياة،
تراهم مثل البهائم، يأكل أحدُهم ويشرب، وينام، ويرفس النعمة، ويقول: هكذا
الناس؛ أكلٌ، وشراب، ونوم، وكلام مؤذٍ مثل الرصاص، كِبر واستعلاء، متى يشعر
بقيمة الحياة؟ حينما يأتيه ملك الموت.
حينما تؤمن بالآخرة وتدخل الموت في حساباتك ترى التعب راحة والعطاءَ أخذاً :
الحقيقة أنّ المشكلة الآن في الملهيات الكثيرة
حولك، تنسيك الزمن كله، أجدادنا لم يكن عندهم ملهيات، أحدُنا الآن يمكن أن
يجلس أمام التلفاز حتى الساعة الخامسة صباحاً، مِن محطة إلى محطة أخرى، أو
تلعب طاولة طول الليل، أو تتابع الأخبار، أو المسلسلات، أو تسهر في
المقاهي، يمكن أن تبذل وقتك كله في مُتَع متتابعة، ولا تشعر بالوقت أبداً،
فجأةً أزمةٌ في الصحة شديدة، فيُؤخّذ إلى المستشفى، عناية مشددة، ثم يُنشَر
نعيُه، هذا واقع الناس كلهم، فنحن نضرع إلى الله أنْ يلهمنا الصواب، حينما
تؤمن بالآخرة، وحينما تدخل الموت في حساباتك اليومية، ترى التعب راحة،
وترى العطاءَ أخذاً، والعمل المتواصل هو الذكاء، وكل إنسان وجد الراحة هي
الهدف، فهو الغبيُّ الذي لم يفقه من الدنيا شيئاً، معظم الناس تراه وليس له
عمل صالح يحتاج إلى فيلا ومسبح، ودخل كبير، يتمتع ويسافر، ولا يريد شيئاً
آخر، أهذا الشيء يدوم؟ وإذا دام فإلى متى؟ ألم يعلم أنّ كل حال يزول،
وسبحان الحيِّ الذي لا يزول ولا يحول.
الموت مصير كل إنسان :
أقام إنسان في بلد نفطي ثلاثين سنة، جمع عدة
آلاف من الملايين، مات فجأةً في فندق، وهو في نزهة، وعمره خمس وخمسون سنة،
الأربعة آلاف مليون أين هي؟ وماذا انتفع منها إن لم يكن تصدّق؟ ربما تكون
عليه وبالاً يوم القيامة، ونخشى أن يقال له يوم القيامة:
أنا الذي ألحُّ عليه هو أنك حينما تؤمن بالآخرة
إيماناً حقيقيّاً، كيف يكون الطالب المجتهد مترقِّباً قدومَ أيام الفحص،
فيدرس له مِن أول السنة، يقرأ، ويلخص حتى الساعة الواحدة ليلاً كل يوم،
لأنه مؤمن أن الفحصَ قريبٌ وآتٍ، وعليه أنْ يجمع علامات، وهذه العلامات سوف
تحدد مستقبله، طبيباً، أو مهندساً، فعندما يؤمن الإنسان بالامتحان إيماناً
حقيقيّاً، ويستعد له من قبل يقطف ثماره، فإذا آمن أحدُنا أن الموتَ قادمٌ
لا محالة، وسوف أحاسب على الكلمة، وعلى النظرة، وعلى الليرة كيف كسبتها،
وكيف أنفقتها، فسأدخل جنةً فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر، فلن يألُوَ جهداً ولن يتلكَّأ لحظةً.
مرة دعانا أخ إلى مكان جميل في اللاذقية، دخلنا
إلى فيلا في بستان، فيه كل أنواع الفواكه، في حضن جبل أخضر مطلة على البحر،
حتى وجدنا في البستان الموز، أنواع الفواكه كلها تملأ جنات هذا البستان،
فسألت فقالوا: والده مات بجلطة، وترك هذا البيت، ومضى إلى الله، هذا مصير
كل إنسان يترك ويمضي، نظِّم أمورك، فهنا الإقامة مؤقتةُ، والمثوى الأخير
معروف، وسيشيع كلُّ واحدٍ منا إلى مثواه الأخير، القضية ليست قضية تشاؤم،
وليس قضية سوداوية، لا، فالموت مصير كل إنسان، وكل مخلوق له بداية، وله
نهاية، وهو بضعة أيام، وعند الولادة تكثر الخيارات، أما عند الموت فليس مِن
خيارات إلا خيارين؛ إما جنة، وإما نار، وحينما تؤمن بالله إيماناً
حقيقيّاً تنعكس المقاييس، ويصبح التعب هو الراحة، والبذل هو الأخذ،
والإنفاق هو السحب، والله سبحانه وتعالى يوفقنا لما يحب ويرضى.
إرسال تعليق