0



العمل بشرائع الإسلام


قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]، ما نصه:
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل وما جاءوا به. وقد دعا الله عز رجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائصه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء منها. فالآية عامة لكل من شمله اسم الإيمان فلا وجه لخصوص بعض منها دون بعض.

ثم أسند عن مجاهد في تفسير ﴿ ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ إنه قال: ادخلوا في الإسلام كافة ادخلوا في الأعمال كافة اهـ.

ثم قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [البقرة: 168]، يعني جل ثناؤه بذلك اعلموا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً، ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين.

وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوها، هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسننت سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.

ثم قال في تأويل قوله تعالى ﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 209]، يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتم الحق فضللتم، عنه وخالفتم الإسلام وشرائعه من بعد ما جاءتكم حججي؛ واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون فاعلموا أن الله ذو عزة لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه من عقوبتكم على مخالفتكم أمره ومعصيتكم إياه دافع، حكيم فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه بعد إقامته الحجة عليكم. ا.هـ. ملخصاً.

أقول: يستفاد من تفسير الآية ومقتضاها أمور (أحدها) افتراض الدخول على المؤمنين في العمل بجميع شرائع الإسلام، ولا يخفى أن التصديق بها والعمل بمقتضاها غير ممكن مع الجهل بمعانيها. ولهذا ترجم الإمام البخاري في صحيحه بقوله "باب العلم قبل القول والعمل. وقول الله تعالى ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، ثم أردف ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة. وعلق عليه الحافظ في الفتح قائلاً: قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما، لأنه مصحح للنية المصححة للعمل. اهـ.

فهذا تصريح بأنه لا يصرح عمل ولا نية بدون علم بما كلف الله العباد به من العقائد والأعمال الدينية، ولاسيما المتعين منها على كل رجل وأنثى من الفرائض الموقوف صحتها وقبولها على تصحيح الإيمان والدخول في حيرة الإسلام. فثبت أن الدخول في دين الإسلام بغير ما قدمنا متعذر كتعذر الدخول في دار مجهولة من البلد. وهذا أمر ضروري لا ينكره إلا معاند مجازف أو مختل الشعور.

وعليه فلا تدخل الشهادتان في الدين الإسلامي الذي ينجي صاحبه من الخلود في النار بمجرد التلف بها من غير علم بمعناها؛ وتحقق لمقتضاها بالعمل والمجاهدة ومخالفة الهوى.

ثاني الأمور: ترك طرق الضلال التي كان العبد في الجاهلية يدين الله بها ويعتقدها ديناً إسلامياً نزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل. وهذا الترك وإن كان أمراً عدمياً فإنه يتضمن أعمالاً وجودية، أهمها النظر والبحث عن أعماله السيئة وعقائده الفاسدة التي سبق أن تلقاها من أهل الجهل من أفواههم وكتبهم، عملاً بقوله تعالى: ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18].

ثالث الأمور: البحث عن الأدلة الدالة على فساد الفاسد وصواب الحق منها، لكي يتميز أحدهما عن الآخر بصورة قاطعة، ويرجع كل منهما إلى أهله، ويتبرأ بواسطة ذلك دين الإسلام ومن جاؤوا به من الرسل ومرسلهم عن نسبة الفاسد والبدع القبيحة غليهم. وبهذا العمل يتمكن العبد من الإقلاع عن الأول وإحلال الثاني محله.

رابع الأمور - وهو المقصود بالذات: تقديم المعذرة إلى الله بالاعتراف الصادر عن صميم الفؤاد وصادق الاعتقاد: بأنه قد جنى على أنبياء الله ودين الإسلام جنايات عظيمة لم يجنها المشركون الأولون؛ يجعله الدين الإسلامي المؤسس على التوحيد الخالص المناقض لدين أهل الإلحاد من كل وجه ديناً وثنياً إلحاديا، نزلت به الكتب على زعم ذلك الجاهل الملحد بتلك العقائد الفاسدة – وأرسلت به الرسل، ودان به محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله. ثم بعد إيقانه بصدور هذه الجنايات في حال جهله الأول، وأنه مؤاخذ بها؛ ولا عذر له بالجهل؛ لتقصيره فيما كلفه الله به من التعلم، يتضرع إلى الله بطلب العفو وبالتسبيح والتقديس عن تلك الجنايات، لاسيما إن كانت قد بلغت حد النهاية من القبح والشرح والإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته التي وصف بها نفسه وأخبر بها رسله، والعقائد الوثنية التي لم يفعل شيء منها أهل الجاهلية الأولى ما عدا كونهم اتخذوا وسائط يتقربون بها إلى الله، لكنهم لم يقولوا أن هناك أقطاباً أربعة جاء به أحداً من أنبياء الله ورسله، كما سألهم الله سبحانه ﴿ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ﴾ [الأنعام: 148]، فسكتوا، بل يعترفون بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله بضده: فليتأمل اللبيب الفرق بين الأمرين.

لا يقال: جاء حديث في صحيح البخاري فيه "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عن كل سيئة كان زلفها" دالاً على خلاف ما ذكرناه من لزوم العمل بتلك الأمور الأربعة. لأنا نقول: إن الحافظ ابن حجر في (ج10 ص74) قد فسر "فحسن إسلامه" بقوله: أي صار إسلامه حسناً، باعتقاده وإخلاصه، ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل.

وحاضر الجواب: أن العبد المشرك الملحد الذي كان يزعم نفسه مسلماً مؤمناً لا يمكن أن يحسن إسلامه لكي يكون ماحياً آثامه إلا بما ذكرنا من الأمور، بل لا يدخل أصل الإيمان في قلبه مع باقي العقائد الصحية إلا بهذه الأمور وغيرها مما فرض الله عليه مما لم نذكره: وقد أيد ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال في كتابه الفوائد - صحيفة 29:
"قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده. وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات. فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل التكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق غليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه.

وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم إلى حديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان. ولهذا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعرا» فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر. فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضاحكات والحكايات ونحوها: وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً لها ولا قبولاً، فتعدّته وجاوزته إلى محل سواه. كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لم تجد منفذاً لها فيه؛ فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة. ولذلك قيل:
نزه فؤادك من سوانا تلقنا فجنابنا حل لكل منزهِ

ومراده بقوله "تلقنا" إما في الدنيا، أي تلقى الإيمان بنا ومحبتنا ونحوها من الأعمال القلبية، أو تلق فضلنا عليك ورحمتنا بك وهدايتنا لك؛ كما في حديث ابن عباس "احفظ الله تجده تجاهك"؛ وإما في الآخرة فاللقاء حقيقي، وليس المراد به اللقاء الدنيوي كما يقوله جهلة المتصوفة. والبراهين على ما قدمناه كثيرة لا يتسع المقام لبسطها. والله الموفق.

مجلة الهدي النبوي - المجلد الرابع
العدد 45 - أول جمادى الأول سنة 1359هـ

إرسال تعليق

 
Top