0

النائحة إذا لم تتب

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا لم يغسل عقبيه فقال:

النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب

رواه مسلم

.

النياحة على الميت


النياحة على الميت، وخمش أو لَطْم نحو الخد، وشق نحو الجيب، والنياحة وسماعها، وحَلْق أو نتف الشعر، والدعاء بالويل والثبور عند المصيبة:
أخرج الشيخان: ((ليس منا مَن ضرَب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدَعْوى الجاهلية)).

وأخرَجَا أيضًا عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "أنا بريءٌ ممن برِئ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم برِئ من الصالقة (أي: الرَّافعة صوتها بالندب والنياحة)، والحالقة (أي: لرأسِها عند المصيبة)، والشاقَّة (أي: لثَوْبها)"، وفي رواية للنسائي: "أبرَأُ إليكم كما برئ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ليس منا مَن حلَق ولا خرَق ولا صلَق".

وأخرج مسلم: ((اثنتانِ من الناس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في النسب، والنِّياحة على الميت)).

وابن حِبَّان والحاكم وصحَّحه: ((ثلاثة من الكفر بالله: شقُّ الجَيْب - أي: طَوْق القميص - والنِّياحة، والطعن في النسب)).

وفي رواية لابن حبان: ((ثلاث هي الكفر))، وفي أخرى: ((ثلاث مِن عمَلِ الجاهلية)).

وأحمدُ بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما افتتح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ، رنَّ إبليس رنةً اجتمعت إليه جنودُه، فقال: ايئَسوا أن تردُّوا أمةَ محمدٍ على الشرك بعد يومِكم هذا، ولكن افتِنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النَّوْح".

والبزار بسندٍ رواته ثقات: ((صوتانِ ملعونانِ في الدنيا والآخرة: مِزْمارٌ عند نعمة، ورنَّة عند مصيبة)).

وأحمد بسند قال المنذري: حسَنٌ إن شاء الله تعالى: ((لا تصلِّي الملائكةُ على نائحةٍ ولا مُرِنَّة)).

ومسلم وغيره: ((أربعٌ في أمتي من الجاهلية لا يتركونَهن: الفخرُ في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنِّياحة)).

وقال: ((النائحة إذا لم تتُبْ قبل موتها، تُقام يوم القيامة وعليها سِربالٌ مِن قَطِرانٍ - أي (بفتح فكسر): نحاس مُذاب، أو ما تداوى به الإبلُ، وقيل غير ذلك - ودِرْع من جَرب)).

وابن ماجه: ((النِّياحة من أمرِ الجاهلية، وإن النائحةَ إذا ماتت ولم تتُبْ، قطَع اللهُ لها ثيابًا من قَطِران، ودِرعًا من لَهَب النار)).

عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قال: "لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النائحةَ والمستمعة".

والشيخانِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قتلُ زيدِ بن حارثة وجعفرِ بن أبي طالب وعبدِالله بن رواحة، جلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعرَفُ فيه الحزن، قالت: وأنا أطَّلع من شقِّ الباب، فأتاه رجل فقال: أي رسول الله، إن نساءَ جعفرٍ، وذكَر بكاءهن، فأمره أن ينهاهنَّ، فذهب الرجل ثم أتى فقال: والله لقد غلَبْنَني أو غلبْنَنا، فزعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فاحْثُ في أفواههن الترابَ))، فقلت: وأرغم اللهُ أنفَك، فوالله ما أنت بفاعلٍ، ولا تركتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من العَناء".

وأبو داود عن امرأةٍ من المبايعات قالت: "كان فيما أخَذ علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المعروفِ الذي أخذ علينا: ألا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، ولا نشُق جيبًا، ولا ننتف شعرًا".

وابن ماجه وابن حِبَّان في صحيحه عن أبي أمامة رضي الله عنه: "أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لعَن الخامشةَ وجهَها، والشَّاقَّة جيبَها، والداعيةَ بالويل والثبور".

والشيخان: ((الميت يعذَّبُ في قبره بما نِيحَ عليه)).

وفي رواية: ((ما نِيحَ عليه)).

وروَيا أيضًا: ((مَن نِيحَ عليه، فإنه يُعذَّبُ بما نِيحَ عليه يوم القيامة)).

تنبيه: قد ظهر من هذه الأحاديث التي ذكرناها، وما اشتملت عليه من اللَّعن، وأن ذلك كُفر؛ أي: يؤدي إليه، أو لمن استحل، أو بالنعم، ومن غير ذلك من أنواع الوعيد - صحةُ ما قاله غيرُ واحد من أن تلك كلها كبائرُ، ويلحق بها ما في معناها.

وأما تقرير الشَّيخين لصاحب العدة على أن النِّياحة والصياح وشقَّ الجيب في المصائب من الصغائر، فمردودٌ.

قال الأذرعي: لم أرَ ذلك لغيره، والأحاديث الصحيحة تقتضي أن ذلك من كبائر الذنوب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تبرَّأ مِن فاعل ذلك، وقال: ((ليس منا مَن لطَم الخدود، وشقَّ الجيوب))؛ الحديث.

وقال: ((اثنتانِ في الناس هما بهم كفرٌ: الطعن في النسب، والنِّياحة على الميت))؛ رواه مسلم.

قال النوويُّ في شرح مسلم: وهذا الحديثُ يدلُّ على تغليظ تحريم الطَّعن في النسب والنِّياحة، وقيل فيه أقوال: أصحها: أن معناه هما من أعمالِ الكفار وأخلاق الجاهلية.

والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر.
والثالث: أنه كُفْر النِّعمة والإحسان.
والرابع: أن ذلك في المستحِل؛ انتهى.

فيجبُ الجزم بأن مَن جمع بين النياحة وشقِّ الجيب والصياح مع العلم بالتحريم، واستحضار النهي عنه، والتشديدات فيه، وتعمَّد ذلك - خرَج عن العدالة؛ لجَمْعِه بين هذه القبائح وإيذاءِ الميت بذلك، كما نطَقت به السنَّة.

انتهى كلام الأذرعي.
وقال في موضع آخر: وأما النياحة وما بعدها، فإن كان ذلك تسخُّطًا بالقضاء، وعدم رضًا بالمقضي، فالظاهر أنه كبيرة، وإن كان لفَرْط الجزَع والضعف عن حملِ المصيبة من غير استحضار سَخَط ونحوه، فمحتمل.

وهل يُعذَر الجاهل؟ فيه نظر.

وقال في الخادم: وأما النياحة وما بعدها، فقضية الخبَر بالتوعُّد عليه أن يكون كبيرةً؛ انتهى.

فيحرُمُ الندبُ، وهو تعديدُ محاسن الميت؛ كـ: واجبلاه، والنوح: وهو رفعُ الصوت بالندب، ومثله إفراط رفعه بالبكاء، وإن لم يقترِنْ بنَدْب ولا نَوْح وضرب نحو الخد، وشق نحو الجيب، ونشر الشعر، وحَلْقه، ونتفه، وتسويد الوجه، وإلقاء الرَّماد على الرأس، والدعاء بالويل والثبور؛ أي: الهلاك، وكل شيء فيه تغيير للزي؛ كلُبْس ما لا يعتاد لُبسه أصلاً، أو على تلك الصفة، وكتَرْك شيء من لباسه والخروج بدونه على خلاف العادة، وقد ابتلي كثيرٌ من الناس بتغيير الزيِّ مع ما تقرَّر من حرمته، بل كونه كبيرةً وفِسقًا؛ قياسًا على تلك المذكورات وإن كانت أفحشَ منه؛ لأنهم علَّلوها بما يعُمُّ الكلَّ، وهو أن ذلك يُشعِر إشعارًا ظاهرًا بالسخط وعدم الرِّضا بالقضاء، أما البكاء السالِم من كل ذلك، فهو جائز قبل الموت وبعده، لكن الأَوْلى تركه بعده إن أمكن، وقال جمع: إنه مكروه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيح: ((فإذا وجَبَتْ، فلا تبكِيَنَّ باكيةٌ)).

وقد بكى صلى الله عليه وسلم قبله على ولده وغيره.

أخرَج الشيخانِ: أنه صلى الله عليه وسلم: "عاد سعدَ بن عبادة ومعه جماعة، فبكى، فلما رأَوْه بكَوا، فقال: ((ألا تسمعون، إن الله لا يعذِّب بدَمْع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذِّب بهذا أو يرحَم)) وأشار إلى لسانه".

وأخرَجَا أيضًا: أنه رُفِع إليه صلى الله عليه وسلم ابنٌ لبنته وهو في الموت، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: ((هذه رحمةٌ جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحَمُ اللهُ من عباده الرحماءَ)).

والبخاري: أنه صلى الله عليه وسلم دخَل على ابنه إبراهيمَ وهو يجُود بنفسِه، فجعلت عينَا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تذرِفانِ، فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنتَ يا رسول الله؟! فقال: ((يا بن عوفٍ، إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى، فقال: ((إن العين تدمعُ، والقلب يحزنُ، ولا نقولُ إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنا بفِراقِك يا إبراهيمُ لَمحزونون)).

وأخَذ أصحابنا من ذلك كله قولَهم: دمع العين بلا بكاء لا كراهةَ فيه، بل هو مباح، وما مر في الأحاديثِ الصحيحة من أن الميت يعذَّبُ ببكاء أهله عليه، اختلفوا في ماذا يُحمل عليه، والصحيح عندنا أنه محمولٌ على ما إذا أوصى بذلك، بخلاف ما إذا سكَت فلم يأمُرْ ولم يَنْهَ، أو أمر، فإنه يعذَّب بسبب أمرِه وامتثالهم له؛ لأن مَن سنَّ سنَّةً سيئةً عليه وِزرها، ووزر من يعمل بها؛ فالإثم يزيد عليه بالامتثال بما لا يوجد لو لم يمتثل، وقيل: إنه إذا سكت ولم ينهَهم عن نحو النوح، يعذَّبُ بذلك أيضًا؛ لأن سكوتَه عن نهيهم رضًا منه به، فعُذِّب به كما لو أمَر، فمن أراد الخروجَ مِن ورطة هذا القول ينبغي له إذا نزل به مرضٌ أن ينهاهم عن بِدَع الجنائز وغيرها مِن المحرَّمات الشَّنيعة، والقبائح الفظيعة.

قال أصحابنا وغيرهم: ويتأكد لمن ابتُلِي بمصيبة بميِّت أو في نفسه أو أهله أو ماله وإن خفَّتْ - أن يُكثِرَ من: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجُرْني في مصيبتي، وأَخلِف لي خيرًا منها؛ لخبر مسلم أن مَن قال ذلك أجَره الله، وأخلَف له خيرًا منها، ولأنه تعالى وعَد من قال ذلك بأنَّ عليهم صلواتٍ من ربهم ورحمةً، وأنهم المهتدون؛ أي للترجيع، أو للجنة والثواب.

قال ابن جبير: لقد أعطيت هذه الأمَّةُ عند المصيبة ما لَم يُعْطَهُ غيرُهم: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ولو أوتوه لقاله يعقوبُ ولم يقل: ﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 84].

وفي الحديث: ((ما أصيب عبدٌ بمصيبة إلا لذَنْبٍ لم يكن يُغفَر إلا بها، أو درجةٍ لم يكن يبلُغُها إلا بها)).

ورواه ابن أبي الدنيا بلفظ: ((ما أصاب رجلاً من المسلمين نكبةٌ فما فوقها حتى الشوكة إلا لإحدى خَصْلتينِ؛ إما ليغفِر اللهُ له من الذنوب ذنبًا لم يكن ليغفر له إلا بمثلِ ذلك، أو يبلغ به من الكرامة كرامةً لم يكن يبلغها إلا بمثلِ ذلك)).

وأخرَج الشيخان: أن بنتًا له صلى الله عليه وسلم أرسَلت إليه تُخبِرُه أن ابنها في الموت، فقال صلى الله عليه وسلم للرسول: ((ارجِعْ إليها فأخبِرْها أنلله ما أخَذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمًّى، فمُرْها فلتصبِرْ ولتحتسِبْ)).

قال النوويُّ:
هذا الحديثُ من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمَّاتٍ كثيرة من أصول الدين وفروعه، والأدب والصبر على النوازل كلها، والهموم والأسقام، وسائر الأعراض، ومعنى (أن لله ما أخذ) أن العالَم كلَّه ملكه، فلم يأخُذْ إلا ما هو له عندكم في معنى العارية، (وله ما أعطى)؛ أي: ما وهبه لكم؛ إذ لم يخرُجْ عن ملكه، فيفعل فيه ما شاء، (وكل شيء عنده بأجل مسمى)؛ أي: فلا يمكن تقديمُه عليه، ولا تأخيرُه عنه.

فمَن علِم هذا، أدَّاه إلى أن يصبِرَ ويحتسِبَ.

وقد ورَد أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن شقَّ عليه موتُ ابنه: ((أيما كان أحبَّ إليك: أن تمتع به عمرك، أو لا تأتي غدًا بابًا من أبواب الجنة إلا وجدتَه قد سبَقك إليه فيفتحه لك؟))، فقال: يا رسول الله، هذا أحبُّ إليَّ، قال: ((هو لك))، فقيل: يا رسول الله، هو له خاصةً أم للمسلمين عامةً؟ فقال: ((بل للمسلمين عامةً)).

وفي خبر مسلم: ((ما من مصيبة يصاب بها المؤمنُ إلا كُفِّر بها عنه، حتى الشوكةُ يُشاكُها)).

وفي حديث آخر: ((مَن أصيب بمصيبةٍ، فليذكُرْ مصيبته بي؛ فإنها أعظمُ المصائب)).

وكأن القاضي حُسَينًا من أكابر أئمتنا أخَذ من هذا قوله الذي أقروه عليه: يجبُ على كل مؤمنٍ أن يكون حزنُه على فِراق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الدنيا أكثَرَ منه على فِراقِ أبويه، كما يجب عليه أن يكونَ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسِه وأهله وماله.

وفي حديث: ((إن مَن حمِد الله واسترجع عند موت ولدِه، أمَر الله ملائكتَه أن يبنُوا له بيتًا في الجنة ويسمُّوه بيتَ الحمد)).

وفي أخرى عند البخاريِّ: ((ما لعبدي المؤمن جزاءٌ إذا قبَضْتُ صفِيَّه مِن أهل الدنيا ثم احتسَبه إلا الجنَّةُ)).

وفي أخرى: ((إنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى))؛ أي إنما يُحمَد الصبر عند مفاجأة المصيبة، وأما فيما بعدُ، فيقع السُّلو طبعًا.

ومن ثَم قال بعض الحكماء: ينبغي للعاقل أن يفعَل بنفسه أولَ أيام المصيبة ما يفعلُه الأحمقُ بعد خمسةِ أيام.

وفي حديث آخر: ((مَن قدَّم ثلاثةً من الولد لم يبلُغوا الحِنْثَ، كانوا له حِصنًا من النار))، فقال أبو الدرداء: قدمتُ اثنين، قال: ((واثنين))، قال آخر: قدمتُ واحدًا، قال: ((وواحدًا، ولكن ذلك في أول صدمة)).

وفي أخرى: ((من كان له فَرَطانِ - أي: ولدان - من أمَّتي، دخَل الجنة))، قالت عائشة: ومَن له فَرَط؟ قال: ((ومَن له فرَط))؛ الحديث.

وفي خبر مسلم: أنه مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها: لا يحدِّثه إلا أنا، فلما جاء قرَّبت إليه عَشاءه، فأكل وشرب، ثم تصنَّعت له أحسَنَ ما كانت تتصنع له قبل، فغشِيها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب، قالت: يا أبا طلحة، أرأيتَ لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهلَ بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت أم سليم: فاحتسِبِ ابنَك، فغضب، ثم انطلق إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ((بارَك الله لكما في ليلتِكما))؛ الحديث.

وفي حديث: ((ما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسَعَ من الصبرِ)).

كتاب: اتباع مناهج أهل السنن والآثار.. شرح سواطع الأنوار لمعرفة عقيدة سيد الأبرار
المصدر شبكة الألوكة

إرسال تعليق

 
Top