الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ مُعَاذا - رضي
الله عنه - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: "إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ
إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله. وَأَنِّي رَسُولُ اللّهِ
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذٰلِكَ. فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله افْتَرَضَ
عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ
أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ
صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ،
فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ.
وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
اللّهِ حِجَابٌ".
أولاً: ترجمة راوي الحديث:
ابن عباس: تقدمت ترجمته في الحديث السابع.
ثانياً: تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم حديث (19)، وأخرجه البخاري في "كتاب الزكاة" "باب وجوب الزكاة" حديث (1395)، وأخرجه أبو داود في "كتاب الزكاة" "باب في زكاة السائمة" حديث (1584)، وأخرجه الترمذي في "كتاب الزكاة" "باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة" حديث (625)، وأخرجه النسائي في "كتاب الزكاة" "باب وجوب الزكاة" حديث (2434)، وأخرجه ابن ماجة في "كتاب الزكاة" "باب فرض الزكاة" حديث (1783).
ثالثاً: شرح ألفاظ الحديث:
(بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ): جاء في رواية
أخرى عند البخاري ومسلم ما يدل على أن بعث معاذ كان إلى اليمن وكان النبي -
صلى الله عليه وسلم - قد بعث معه أبو موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب كل
واحد في جهة و اُختُلف في سنة بعثهم فقيل: سنة ثمان، وقيل: تسع، وقيل: عشر،
وهذا هو الأظهر واختاره البخاري في المغازي وهي السنة التي توفي فيها
النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(إِنَّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ): أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، ولاسيما اليهود فقد كانوا
أكثر من النصارى في اليمن والوثنيون أكثر منهم ذلك الوقت.
(كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ): الكرائم جمع
كريمة وهي النفيسة، يقال ناقة كريمة أي غزيرة اللبن، أو كثيرة اللحم أو
الصوف، أو جميلة الصورة وأصل الكريمة كثيرة الخير، والمقصود هنا نفائس
الأموال.
(لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللّهِ
حِجَابٌ): حجاب أي صارف، أو مانع، فليس بين دعوة المظلوم وبين الله تعالى
أي صارف فالمراد أنها مقبولة.
رابعاً: من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى:
الحديث دليل على مشروعية بعث الدعاة إلى الله تعالى في أطراف الأرض
لينشروا دين الله تعالى، ويعلموا الناس شريعة ربهم وأحكام دينه، وهذا يؤخذ
من بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن.
الفائدة الثانية: الحديث دليل على بعض صفات الداعية التي ينبغي أن يراعيها ويتحلى بها:
الأولى: أن
يعرف حال من يريد أن يدعوهم ليختار لهم الأنسب في دعوته، فيعرف حالهم وما
يحتاجونه فإن كانوا مقصرين بأمر كان على بينة منه لئلا يدعوهم لشيء آخر قد
التزموه ويترك ما قصروا فيه، وإن كانوا يتأثرون من جانب عرف هذا الجانب،
وإن كانت لديهم شبهة عرف هذه الشبهة وكيف يزيلها وكل هذا قبل أن يقدم عليهم
فيعرف حالهم، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إنك تأتي
قوما من أهل الكتاب" وذلك من أجل أن يعرف أنهم أهل علم وليسوا جهالا
كالوثنيين ليدعوهم بما يناسب حالهم ويستعد لهم ولحججهم.
الثانية:
أن على الداعية أن يبدأ في دعوته بالأهم فالأهم، وهذا ما أوصى به النبي -
صلى الله عليه وسلم - معاذا حيث أرشده أن يدعوهم إلى كلمة التوحيد ثم
الصلاة ثم الزكاة فقدم الأهم فالأهم، وهكذا ينبغي للداعية حينما يحث على
شيء فإنه يبدأ بآكد الأوامر ثم التي تليها.
وحينما ينهى عن شيء فإنه يبدأ بأعظم النواهي جرماً، فإن هذا من فقه الأولويات في الدعوة.
الثالثة: على
الداعية التزود من الأحكام الشرعية وألا يتعدى على حقوق المدعوين، فالنبي -
صلى الله عليه وسلم - زوَّد معاذا بالفرائض التي يأمر بها أولئك القوم،
وحذَّره من أخذ النفائس من أموالهم في الزكاة فإن هذا هضما لحقهم، وهكذا
ينبغي للداعية أن يدعو إلى الله على بصيرة، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف:108]، وكذلك ينبغي له ألا يصفهم بما ليس فيهم أو يتهمهم بشيء هم منه براء فكل هذا تعدٍّ عليهم.
الفائدة الثالثة:
الحديث دليل على أهمية الدعوة إلى التوحيد وأنها قبل القتال، ولذا بدأ بها
معاذ في دعوته بل لم يتعداها لغيرها حتى يقروا بها، فبدأ بالشهادتين
لأنهما أصل الدين الذي لا يصح منه شيء إلا بهما.
الفائدة الرابعة:
الحديث دليل على أن على العبد خمس فرائض في اليوم والليلة وعلى فرضية
الزكاة ولم يرد في الحديث ذكر الصيام والحج، فأما الصيام فإن معاذا كان
بعثه في ربيع الأول سنة عشر على الصحيح وليس الوقت وقت صيام ولا حج فأخرت
الدعوة لهما إلى وقتيهما ليستقر الإيمان في قلوبهم فيسهل عليهم قبول ذلك،
فأمرهم بتكليف اعتقادي وهو الشهادتين، وتكليف عملي وهو الصلاة وتكليف مالي
وهو الزكاة، وأما الصيام فهو بدني، وأما الحج فهو بدني مالي والله أعلم.
الفائدة الخامسة:
الحديث دليل على جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من أصناف الزكاة الثمانية
وهم الفقراء في حديث الباب، وهذا قول جمهور العلماء وأنه يجوز صرف الزكاة
لصنف واحد من الأصناف الثمانية، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
﴾ [البقرة: 271]، فلم يذكر إلا صنفاً واحداً وهم الفقراء، فهذا هو القول
الراجح خلافاً لمن قال بوجوب تعميم الزكاة على الأصناف الثمانية كلها
مستدلاً بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللَّـهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ [التوبة: 60]، والصواب أن
المقصود من الآية بيان الأصناف الذين تدفع لهم الزكاة لا بيان وجوب تعميمهم
بالزكاة مع ما في ذلك من الحرج والمشقة والمخالفة لما عليه المسلمون سلفا
وخلفا.
الفائدة السادسة:
استدل بحديث الباب من قال بأنه لا يجوز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد
آخر، ووجه استدلالهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تؤخذ من
أغنيائهم فترد في فقرائهم" أي فقراء أهل اليمن وهذا باعتبار أن الضمير يرجع
إلى فقراء أهل اليمن، أما بالاعتبار الآخر وهو الضمير يرجع إلى فقراء
المسلمين فلا دلالة لهم بل دلالة عليهم.
والقول الثاني:
جواز نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر لمصلحة راجحة كفقراء أشد حاجة
أو قريب محتاج ونحو ذلك وهذا قول جمهور العلماء وهو الأظهر والله أعلم
لعموم قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
﴾ أي لهم في كل مكان، وهناك أدلة أخرى كحديث قبيصة بن مخارق الهلالي
وسيأتي الحديث وفيه بيان هذه المسألة في كتاب الزكاة بإذن الله تعالى،
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: "إن تحديد المنع من نقل
الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي" [انظر الاختيارات ص 99].
الفائدة السابعة: الحديث
دليل على أن على من يأخذ الصدقة أن يجتنب كرائم الأموال أي أنفسها فإن في
هذا إضرار بصاحبها وظلم له ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإياك
وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم" وكذلك على صاحب الصدقة ألا يدفع الرديء
والمعيب، ففي البخاري من حديث أنس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولا
يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصَّدق" وأيضا
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾ [البقرة: 267] وإنما يُخرج الوسط من المال.
الفائدة الثامنة: الحديث فيه التحذير من دعوة المظلوم، وفيه أنه يجوز للمظلوم أن يدعو على الظالم.
ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه
وسلم -" واتق دعوة المظلوم" فإنه يؤخذ منه التحذير من دعوة المظلوم وأيضاً
أن للمظلوم دعوة يجوز له أن يدعو بها.
وأن دعوة المظلوم
مقبولة، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - "فإنه ليس بينها وبين الله
حجاب" حتى وإن كانت من كافر فهي مقبولة أيضاً فليس هناك ما يصرفها من
موانع الإجابة، وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أنس "دعوة المظلوم وإن
كان كافرا ليس دونها حجاب" والله تعالى استجاب للمشركين حين دعوا بإخلاص
وهو يعلم سبحانه أنهم سيشركون بعد ذلك قال تعالى: ﴿
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وقبول دعوة المظلوم ولو كان كافراً دليل على عظم هذه الدعوة.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ
من دعوة المظلوم، فعن عبد الله بن سرجس قال:" كان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، والحور بعد
الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال" رواه مسلم.
والمظلوم
دعوته مستجابة ولو بعد حين، ولذا لا يغتر من ظلم غيره وأمن فترة من الزمن
ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة مرفوعا:
"إن الله تعالى يرفع دعوة المظلوم على الغمام و يقول لها: لأنصرنك ولو بعد
حين"، فإن الله عز وجل قد يمهل الظالم ولكنه سبحانه لا يتركها ولا يهملها
ففي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن الله
يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ: ﴿ وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]، والتاريخ والواقع شاهد بكثير من القصص والأحداث.
وهذا في الدنيا وأما في
الآخرة فإن الظلم ظلمات، ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال النبي - صلى الله
عليه وسلم - "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة".
ولذا أرشد النبي - صلى
الله عليه وسلم - إلى التحلل من الظلم قبل الخروج من الدنيا، ففي الصحيحين
من حديث أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من كانت له مظلمة
لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن
كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات
صاحبه فحمل عليه" وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قال النبي - صلى الله
عليه وسلم -" إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار
فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا".
ولعظم الظلم حرمه الله تعالى على نفسه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ وقال: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ و في الحديث القدسي عند مسلم قال الله تعالى: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
• فائدة: للظلم ثلاثة أنواع:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾.
الثاني: ظلم بينه وبين الناس، وهو المقصود في حديث الباب وقال الله فيه: ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ وقال: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ﴾.
الثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وذلك باقتراف ما حرم الله وتركه ما أوجب عليه قال تعالى: ﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾.
هذه الأنواع الثلاثة كلها ظلم للنفس في حقيقتها.
هذا ما تيسر إيراده باختصار تحت دعوة المظلوم، نسأل الله أن يعيذنا من الظلم وسبله.
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان)
إرسال تعليق