0

الكاتب: أحمد الشّيخلي


{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادةٍ تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم الَّذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده ومجموعه صحيحةً، منطبعةً في النَّفس بتكرُّر العمل، أو بالنَّظر والاعتبار تصدر عنه أعمالٌ جليلةٌ، وآثارٌ جميلةٌ.

ومتى كانت العلوم مضطربةٌ بامتزاجها بالأوهام، أو غير منطبعةٍ في النَّفس؛ لعدم التَّربية عليها، والعمل بها، والنَّظر فيها بعين التَّأمُّل والاعتبار، فلا جرم أنَّ الأعمال تأتي مختلَّةً سيِّئةً.
والسَّعادة إنَّما تُنال بالأعمال؛ فالأمَّة الجاهلة بعيدةٌ عنِ السَّعادة.

العلم الإجمالي قلَّما يفيد صاحبه؛ لأنَّه دائمًا عرضةً للجهالة بما يرد على جزئياته منَ الشُّكوك الَّتي لا تُنفَى إلا بالعلم التَّفصيلي الكامل.

ألا ترى أنَّ أكثر النَّاس يعلمون بالإجمال أنَّ أُمَّهات الرَّذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشَّقاء، ولو كان هذا العلم صحيحًا كاملًا لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك تلك الرَّذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصَّالحة النَّافعة يعلمها عامَّة النَّاس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النَّفوس والأرواح؛ لأنَّ كلَّ صفات الرُّوح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملًا بشيءٍ ما وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنَّما يكون ذلك لأثرٍ في النَّفس أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإنَّ النَّزيه ربما ينطق بالسَّبِّ والهجر منَ القول؛ لغضبٍ شديدٍ يعرض له، لكنَّه لا يلبث أن يعود إلى رشده، وأمثال هذه النَّوادر الَّتي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم، ولا تنحرف بهم عن جادة السَّعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّـهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِ‌يبٍ} [النِّساء: 17].

خفيت هذه المسألة عنِ الجاهلين بعلم النَّفس، وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أنَّ العلم لا يُؤثِّر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الَّذين يحسبون أنَّهم على شيءٍ من العلم، ويمارون في القول؛ لأنَّه جاء مجملًا، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل منَ التَّمثيل.

إنَّ الَّذي يعلم علمًا ناقصًا أنَّ الحسد والكبر (وهو غمط الحقِّ واحتقار الناس) رذيلتان ممقوتٌ صاحبهما عند الله والنَّاس، وأنَّه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها من رجسهما -يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبَّر، ويرى أنَّه غير حاسد ولا متكبر-، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتَّأويل، فيقول في الحقِّ الَّذي غمطه ولم يخضع له؛ لأنَّه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه -مثلًا-: إنَّه ليس بحقٍّ.

وينتحل ما تجود به قريحته منَ الشُّبه؛ لإثبات أنَّه ليس بحقٍّ، وإذا لم يجد شبهةً يطفئ بها نور الحقِّ؛ لقوَّة شعاعه يقول: إنَّه حقٌّ، ولكن جاء في غير وقته، ووُضع في غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته، بل لأنَّه لم يأتِ على منهاج الحكمة (وكأنَّ الحكمة مختصَّةٌ به، لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور)، ويقول -في الإنسان الَّذي احتقره-: إنَّ ما صدر منِّي في شأنه ممَّا يدلُّ على انتقاصه واحتقاره لم أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النَّصيحة للنَّاس كي لا ينخدعوا به.

والدَّليل على أنَّ جهله بأخلاق نفسه هو الَّذي أراه باطله حقًّا، وأعماه عن جزئيات رذائله أنَّ ما وقع منه لو عُرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم بأنَّه حسد وكبر، لا يحتمل التَّأويل. وعجيب أنَّ مثل هذه التّعلَّات تصدر من أمثل العلماء...

ومثال آخر للشُّكوك الَّتي ترد على العلم النَّاقص فتزلزله، حتَّى ما تصدر عنه آثاره -ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت- أنَّ عامَّة المسلمين الَّذين يأتون الفواحش والمنكرات، وهم يسلمِّون بأنَّها موجبةٌ لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في الغالب إلا لأنَّ علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنَّها جاءت منَ الدِّين، عارضتها وصارعتها، فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض، كالمكفرات للذُّنوب منَ الأعمال الصَّالحة، فإنَّهم يسمعون من الوعاظ والخطباء أنَّ مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين -السَّنة السَّابقة والسَّنة اللاحقة- ومن صام يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأنَّ من سبَّح كذا في وقت كذا غُفِرت له ذنوبه، وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأنَّ الله يعتق في كلِّ ليلةٍ من رمضان كذا، والمجموع يستغرق الأُمَّة، وكالشَّفاعات فقد توسَّع فيها الوعَّاظ والقُصَّاص، وفي الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إنَّ العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه، بعد الشَّفاعة لأهله وخلانه. ويتوهَّم علماء السُّوء ويوهمون النَّاس أنَّهم هم الشُّفعاء؛ ليعطوهم ويعظِّموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشَّرع... وبعضه له معانٍ صحيحة، لا يترتب عليها هذا الغرور الَّذي أبطل فائدة الإنذار الَّذي جاءت به الرُّسل والأديان. مثلًا: إنَّ ما ورد في المكفرات للذُّنوب مقصود به التَّرغيب في الطَّاعة، وإنَّما المراد بالذُّنوب التي تُكَفَّر هي الصَّغائر والهفوات الَّتي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات؛ كأكل أموال النَّاس بالباطل، وشهادة الزُّور، والكذب، والخيانة، وعدم الوفاء بالوعد؛ فإنَّ مثل هذه لا تُكفَّر إلا بالإقلاع عنها، وردِّ الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدِّين عبارة عن كلماتٍ أو أعمالٍ قليلةٍ يُباح للإنسان معها كلُّ شيءٍ، ولبطلت فائدة النُّصوص المنفرة عنِ المعاصي والرَّذائل.

كيف يصحُّ أن نقول: إنَّ حركة اللسان بكلماتٍ، أو صيام يوم أو أيام يُكفِّر هذه السَّيِّئات الفاشية الَّتي دهورت الأمَّة في مِهواة الشَّقاء، وأنزلت بها صواعق البلاء. والنَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «أربعُ خلالٍ مَن كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالصًا: من إذا حدَّث كذَب، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا عاهد غدَرَ، وإذا خاصمَ فجَر. ومن كانت فيه خَصلةٌ منهنَّ كانت فيه خَصلةٌ منَ النِّفاقِ حتى يدَعَها» [رواه البخاري 3178]، ألفاظ أخرى بمعناها في رواية مسلم التَّصريح بقوله: «آيةُ المنافقِ ثلاثٌ وإن صام وصلَّى وزعم أنه مسلمٌ» [رواه مسلم]. وظاهر هذا الحديث أنَّ مَن كانت فيه هذه الثَّلاث فهو ليس بمسلمٍ حقيقةً، ولا يغني عنه ادِّعاء الإسلام، والإتيان بأعماله العظيمة الظَّاهرة؛ كالصَّوم والصَّلاة والحجّ، ولكن العلماء أوَّلوه وقالوا: إنَّ المراد به (النِّفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن يقول: إنَّ هذا النِّفاق العملي يكفَّر بالصَّوم والصَّلاة والتَّسبيح؛ لأنَّه إبطال للحديث، ورفض له.

وأمَّا العفو وشفاعة النَّبيِّ -وهي عبارة عن دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيب الله -تعالى- له- فالحكمة في الأوَّل: أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنَّه إذا يئس يسترسل في الفجور، ومراد الشَّريعة رجوعه عنه.

والحكمة في الثَّانية: إظهار كرامة للشَّافعين، على أنَّهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسُّنَّة طافحان ببيان ما يرتضيه -تعالى- وما لا يرتضيه، ونكتفي هنا بقوله -تعالى-: {رَّ‌ضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَ‌ضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَ‌بَّهُ} [البيِّنة: 8].
على أنَّ العفو والشَّفاعة مبهَمٌ أمرهما، والأصل أنَّ الجزاء على الأعمال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّ‌ةٍ خَيْرً‌ا يَرَ‌هُ ﴿7﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّ‌ةٍ شَرًّ‌ا يَرَ‌هُ} [الزَّلزلة: 7-8].

وفي الصَّحيحين قام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حين أُنزل عليه: {وَأَنذِرْ‌ عَشِيرَ‌تَكَ الْأَقْرَ‌بِينَ} [الشَّعراء: 214]، فقال: «يا معشرَ قريشٍ -أو كلمةً نحوها- اشتروا أنفسكم لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا بني منافٍ لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا، يا عباسُ بنَ عبدِ المطلبِ لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، ويا صفيةُ عمَّةَ رسولِ اللهِ لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا، ويا فاطمةُ بنتَ محمدٍ، سَلِيني ما شئتِ من مالي، لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا» [متَّفقٌ عليه].

واضرب لهم مثل العفو والشَّفاعة عند الملوك والأمراء، الَّذين تتغيَّر انفعالاتهم، ويمكن للمقرَّب منهم أن يُؤثِّر في نفوسهم، ويحملهم على ما يريد منهم، ونحو هذا مما هو ممتنعٌ في جانب الله -تعالى-، هل يتجرأ آحاد النَّاس على الجرائم والجنايات جهرًا اتكالًا على عفو الأمير، أوِ السُّلطان، أو توقعًا لاحتمال الشَّفاعة له من أحد المقرَّبين إليه؟! كلا، إنَّ مَن يجاهر منَ النَّاس بالجناية رجاء العفو أوِ الشَّفاعة لا بد أن تكون له مكانةً عند السُّلطان، أو المقرَّب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أنَّ العفو يناله، بل إنَّه لا يُسأل عمَّا يفعل، وإنَّما يكون هذا في الحكومات الاستبداديَّة الَّتي لا يتقيَّد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين -سبحانه وتعالى-. وهذه المسألة دليلٌ واضحٌ على مسألتنا؛ وهي أنَّ العمل إنَّما ينشأ عن العلم الأثبت والأقوى في النَّفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النَّقليَّة الآية الَّتي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

ثبت بما ذكرناه أنَّ العقل والنَّقل متفقان على أنَّ العلم الصَّحيح، السَّالم منَ الشَّوائب والعلل- هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصحُّ أن يُستدلَّ بأعمال الأفراد، وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوهٍ منافعها ومصالحها، وما عندها منَ الفنون الَّتي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أنَّ سعادة الأمم بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتَّعاون، والاتفاق والتَّعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق، وتقويم العادات، وتصحيح العقائد الَّتي يُبنَى عليها التَّرغيب والتَّرهيب اللذان يقودان إلى التَّهذيب، وتعليم التَّهذيب هو وظيفة العلماء ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الَّذي يدهور الأمم في مهاوي الشَّقاء. فثبت بهذا كلِّه أنَّ مبدأ ما حلَّ بالشُّعوب الإسلاميَّة منَ التَّأخُّر والانحطاط إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتَّهذيب، والدَّاء إنَّما يُشفَى بإزالة علَّته وسببه، واصطلام [استئصال] الجراثيم الَّتي يتولَّد هو منها...
والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم..

ــــــــــــــــــ
منقولة بتصرف عن مقالة للشّيخ محمد رشيد رضا

المختار الإسلامي



-بتصرُّفٍ يسيرٍ-

إرسال تعليق

 
Top