0

إن اللون الأبيض على جماله وحلاوته وشفافيته لهو أبغض الألوان في عيني إذا رأيته على السرير، حتى يصبح أسْوَدَ في عيني من السواد وأشد قتاما من ظلام الليل .

أكره كل ما يذكرني به أو يدعوني إليه، أتحاشى أن أُدعى إليه محمولاً أو زائراً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ لأنه على لُطفِه مدفنة للأحياء وأَذانٌ للقبور .

وكم هو شديد على القلب وأليم على العين أن ترى قريبك أو حبيبك أو من لا تحب رؤيته عليه وقد استلقى على ظهره مسلماً روحه إلى ربه بين مشارط الأطباء ومقصات الممرضين .

زوَّرت في نفسي أني زائره لا محالة طوعاً أو كرهاً على مشيئة مني أو إباء، ولكن متى تكون تلك الساعة العصيبة وذلك الموقف العصيب .

وما كاد يذهب صباح ذلك اليوم ويدخل المساء في أوائله إذ بي أشاهد بكاء هذا الطالب وهو عاض على نواجذه من شدة الألم يتسارع الدمع انحداراً من عينه الضعيفة ليكفكف بيده الصغيرة السيل مندفع .

شِحت بوجهي عنه لانشغالي بأمر مُلِمٍ ظانا أن المسألة سن يؤلم أو طاحونة مُسوِّسة تذهب بعد ساعة أو ساعتين .

وما كادت عقارب الساعة تطوف حول نفسها حتى علمت سبب ألمه وإذا به قد سقط على فكه ولا يستطيع إطباقه فتراءى ذلك المشهد أمامي : سرير أبيض ممتد على طوله وعليه هذا الطالب بجسده الضعيف وقُواه النحيلة .

فاستعذت بالله وقلت إنها بعيدة، وماهو إلا دلع الطفولة.

ثم جاءني الخبر الآخر الذي يقول: إن الطالب قد كُسر فكه ولا بد له من جبيرة.

لم يحلو لي زيارته حينها لأني لا أريد رؤيته على ذلك السرير، بل لم أرد سماع خبره، لأني لا أحب أن يكون إلا بخير، ولكن الله يسوقنا إلى قدره سوقا .

فخرجت مع والده لزيارة أحد الخِلان ولما انصرفنا سلك والدُه غير طريق البيت وذهب بعيدا . فقلت : لا شك أنا ذاهبون إلى ذلك السرير، لنرى ذلك الحافظ مضجعا عليه.

وكلما اقتربنا من المشفى ابتعد قلبي عني ليذهب مَولِّيا خشية أن يُصدع فيتمزق شر ممزق، اقتربنا من المشفى وكأنه سجن يكتم الأنفاس ويحبس الأخبار .

إنه سجن ولكنه اختياري، أو سجن لا بد منه، لا يعرف كبيراً ولا صغيراً ولا أميراً ولا مأموراً ولا ذكراً ولا أنثى ولا صالحاً ولا طالحاً .

ترجلنا من السيارة وسارعنا الخطى وأنا مرتجف القلب مكسور الخاطر مَوْجُوع الفؤاد لأني سأرى عَجباً عُجاباً وحالاً يرثى لها، وداع إلى البكاء.

دخلناه ومع أنه مُكيف، وهواؤهُ معتدل إلا أنه لم يشعرنا بالأمن فهو مأوى المصابين والمكلومين.

حاولت إغضاء بصري كي لا أرى حزيناً، وتمنيت أن لا سمع شكوى ولا نجوى فإن بثي وحزني عظيم .

سارعت بين الغرف حتى وصلت إلى أخي فرأيت ما يحزنني ويفرحني، حزنت على مُصابه، وفرحت على تجمع أحبابه من حوله، فزملاء التحفيظ حوله يسامرونه وشيخهم قائم على رأسه يواسيه ويسليه وكأنه يعلمه دروساً في الحياة لم تُخط في كتاب ولم تسطر في جواب بل هي مما يتوارثه الأفاضل عن الأفاضل .

غبطته على محبة الناس له وإجلال شيوخه له، ولا زلت أرى الأسف بين عيني شيخه الآخر حين أخبر بمصابه وأنه لن يأتي إلى حين، فقد علِم أنه سيفقد عزيزا على الحلقة ومبرزا بين التلاميذ .

ولما صار والد الطالب عند رأسه كلمه إلا أنه لا يستطيع جوابه من الألم .

وكان برفقته فضلاء فرَقَوْه وعوَّذوه من كل شر وتلوا عليه آيات من الكتاب، فأغمضت عينه لتلاوة القرآن فهتنت عيني بالدمع رحمة به ورأفة وتماسكت حتى لا أجعل جوهم حزيناً كئيباً .

وبعد انتهاء الزيارة أفلنا إلى بيوتنا داعين له، ثم تحسن قليلاً بفضل الله، وما هي إلا أيام حتى يخرج معافى من كل سوء بإذن الله .

ولم يكن قصدي إخباركم بنبأ يخص هذا الطالب ولكن أردت أن نعتبر ونتعظ ونشعر بغيرنا، فمن ذا الذي يأمن على نفسه أن يصاب بسوء أو يسام بمكروه ؟! لا أحد.

فعلينا بالتعويذ والأذكار فإنها حصن حصين لنا ولأبنائنا .

وإني لأعجب من الذي يسعى إلى حتفه بأنفه ويقتل نفسه بيده من المدخنين أو المتعاطين للمخدرات أو الذين يركبون الخطر ركوباً أثناء قيادتهم للسيارات وغيرهم كثير، فوالله إن الدنيا كلها لا تساوي ساعة حزن وهم .

ثانيا: علينا أن نشكر الله ونحمده على العافية ، فإنها نعمة تستوجب الشكر والحمد ( وقليل من عبادي الشكور ) .

ثالثا : إن إخواننا المصابين لهم علينا حق بالدعاء والزيارة وبث الأمل في صدورهم حتى يهنئوا بما بقي من العيش، فلا تنسوهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حق المسلم على المسلم خمس .. ومنها وإذا مرض فعُده " .

والله يغفر لنا التقصير ويجبر المصاب ويعفو عن السيئات. والحمد لله رب العالمين .

إرسال تعليق

 
Top