0
[ ص: 5 ] الحديث الثالث والعشرون عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله ، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها رواه مسلم .                                                                                                             
هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، فذكر الحديث . وفي أكثر نسخ صحيح مسلم " والصبر ضياء " وفي بعضها : " والصيام ضياء " . وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام ، فأنكره يحيى بن معين ، وأثبته الإمام أحمد ، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه . وخرج هذا الحديث النسائي ، وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي [ ص: 6 ] مالك ، فزاد في إسناده عبد الرحمن بن غنم ، ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ ، وقال : معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ، ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر ، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة . وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير ، فإن لفظ حديثه عند ابن ماجه : إسباغ الوضوء شطر الإيمان ، والحمد لله ملء الميزان ، والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض ، والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " . وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم ، ولفظ حديثه : " الوضوء شطر الإيمان " وباقي حديثه مثل سياق مسلم . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم ، قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده : " التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم نصف الصبر ، والطهور نصف الإيمان " . [ ص: 7 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " فسر بعضهم الطهور هاهنا بترك الذنوب ، كما في قوله تعالى : إنهم أناس يتطهرون [ الأعراف : 82 ] ، وقوله : وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] ، وقوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وقال الإيمان نوعان : فعل وترك ، فنصفه فعل المأمورات ، ونصفه ترك المحظورات ، وهو تطهير النفس بترك المعاصي ، وهذا القول محتمل لولا أن رواية " الوضوء شطر الإيمان " ترده ، وكذلك رواية إسباغ الوضوء . وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى ، فإن كثيرا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة ، كالصلاة ، فكيف لا تدخل في اسم الطهور ، ومتى دخلت الأعمال ، أو بعضها ، في اسم الطهور ، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان . والصحيح الذي عليه الأكثرون : أن المراد بالطهور هاهنا : التطهير بالماء من الإحداث ، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء ، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ، وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان . فمنهم من قال : المراد بالشطر الجزء ، لا أنه النصف بعينه ، فيكون الطهور جزءا من الإيمان ، وهذا فيه ضعف ، لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ، ولأن في حديث الرجل من سليم : " الطهور نصف الإيمان " كما سبق . ومنهم من قال : المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان ، لكن من غير تضعيف ، وفي هذا نظر وبعد . [ ص: 8 ] ومنهم من قال : الإيمان يكفر الكبائر كلها ، والوضوء يكفر الصغائر ، فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، وهذا يرده حديث : " من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية " وقد سبق ذكره . منهم من قال : الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان ، فصار نصف الإيمان ، وهذا ضعيف . ومنهم من قال : المراد بالإيمان هاهنا : الصلاة ، كما في قوله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] ، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس ، فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة ، فالصلاة لا تقبل إلا بطهور ، فصار الطهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار ، حكى هذا التفسير محمد بن نصر [ ص: 9 ] المروزي في " كتاب الصلاة " عن إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم ، وأنه قال في معنى قولهم " لا أدري " نصف العلم : إن العلم إنما هو " أدري ولا أدري " ، فأحدهما نصف الآخر . قلت : كل شيء كان تحته نوعان : فأحدهما نصف له ، وسواء كان عدد النوعين على السواء ، أو أحدهما أزيد من الآخر ، ويدل على هذا حديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " والمراد : قراءة الصلاة ، ولهذا فسرها بالفاتحة ، والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسألة ، فالعبادة حق الرب والمسألة حق العبد ، وليس المراد قسمة كلماتها على السواء . وقد ذكر هذا الخطابي ، واستشهد بقول العرب : نصف السنة سفر ، ونصفها حضر ، قال : وليس على تساوي الزمانين فيهما ، لكن على انقسام الزمانين لهما ، وإن تفاوتت مدتاهما ، وبقول شريح - وقد قيل له : كيف أصبحت ؟ - قال : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه ، فالمحكوم عليه غضبان ، والمحكوم له راض عنه ، فهما حزبان مختلفان . ويقول الشاعر :
إذا مت كان الناس نصفين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل
ومراده أنهم ينقسمون قسمين . [ ص: 10 ] قلت : ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض " أنها نصف العلم " خرجه ابن ماجه ، فإن أحكام المكلفين نوعان : نوع يتعلق بالحياة ، ونوع يتعلق بما بعد الموت ، وهذا هو الفرائض . وقال ابن مسعود : الفرائض ثلث العلم . ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " . وروي عن مجاهد أنه قال : المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ، ولعله أراد أن الوضوء قسمان : أحدهما مذكور في القرآن ، والثاني مأخوذ من السنة ، وهو المضمضة والاستنشاق ، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد ، وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، ومنه قول ابن مسعود : الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله . وجاء من رواية يزيد [ ص: 11 ] الرقاشي عن أنس مرفوعا : " الإيمان نصفان : نصف في الصبر ، ونصف في الشكر " فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر ، كان الصبر نصف الإيمان ، فهكذا يقال في الوضوء : إنه نصف الصلاة . وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضا ، كما في " صحيح مسلم " عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه ، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن . وفي رواية له : من أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن [ ص: 12 ] وأيضا ، فالصلاة مفتاح الجنة ، والوضوء مفتاح الصلاة ، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعا ، وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في " صحيح مسلم " عن عقبة بن عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة وعن عقبة ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء . وفي " الصحيحين " عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء . فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة ، صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار . [ ص: 13 ] وأيضا ، فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن ، كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن . والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة ، كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خمس من جاء بهن مع إيمان ، دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - قال : وكان يقول : - وايم الله ، لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وأدى الأمانة قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات [ ص: 14 ] الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة كفارة لما بينهن . قيل : وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن تحت كل شعرة جنابة وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة . وجاء في حديث خرجه البزار من رواية شبابة بن سوار : حدثنا مغيرة بن مسلم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا : " الصلاة ثلاثة أثلاث : الطهور ثلث : والركوع ثلث ، والسجود ثلث ، فمن أداها بحقها ، قبلت منه ، وقبل منه سائر عمله ، ومن ردت عليه صلاته ، رد عليه سائر عمله " وقال : تفرد به المغيرة ، والمحفوظ عن أبي صالح ، عن كعب من قوله . فعلى هذا التقسيم الوضوء ثلث الصلاة ، إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد ، لتقاربهما في الصورة ، فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضا . ويحتمل أن يقال : خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه ، وأما الطهارة بالماء ، فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه ، فصارت خصال الإيمان قسمين : أحدهما يطهر الظاهر ، والآخر يطهر الباطن ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله .

إرسال تعليق

 
Top